المغاربة وحكاية الأمل..

الحرية تي في - الحرية تي في آخر تحديث : 29‏/8‏/2020 13:55

 

FB_IMG_1548192418961.jpg (340 KB)

عبد القادر الدحمني

لا أزال أعتقد بألا شيء أخطر على شعب من فقدان الأمل وسيطرة اليأس من حصول أي تغيير نحو الأفضل، تتحسّن بموجبه الأحوال وتحلو الحياة وتتفجر الطاقات، لا زلت أؤمن بأن أقصر طريق لقتل شعب وطحن روحه هي أن تنتزع منه الأمل وتدوس فيه أي برعم للتطلّع والتشبّث بغد أفضل وأفق أجمل.

كان للمغاربة أمل كبير يكاد لا تحدّه السماء عند جلاء المستعمر، وانتظر الشعب سنوات عديدة ليرى ذلك الحلم الذي حمله في مختلف فترات الكفاح، أن يتحقق، وتتأسس الدولة الوطنية الحامية والضامنة للحرية والديمقراطية والمؤسِّسة لنهضة شاملة تلحق المغرب بمصاف الدولة الكبرى على جميع الصُّعُد والأصعدة وهلمّ جرا من صيغ الجمع..
فخاب الأمل سريعا وانتكس الحلم، ودخلت البلاد دوّامة الصراع لتوطيد دعائم نظام شمولي سيطحن الحلم طحنا ويهدد بعودة الفوضى والسيبة..

وبعدها أفلح النظام المخزني في تنظيم المسيرة الخضراء، وكانت فرصة لتوحيد الصف الداخلي وبداية تشكّل الأمل في دولة وطنية قوية موحّدة، تسعى لحسم العركة مع بقايا الأطماع الاستعمارية أولا، وستعود بدون شك للحسم في مسألة الديمقراطية وتفسح المجال لتداول المشاريع السياسية وترتيب البيت الداخلي، فكان أن بدأت لعنة الانقلابات، وخيّم الصمت الرصاصي المطبق، وساد الشكّ الرمادي اللعين بين الدولة والأحزاب المناضلة، وانتهت اللعبة بإنهاك تلك الأحزاب وتقليم أظافرها، وسيطرة التوجّس العام، والتأسيس لتداول هامشي مفبرك على فتات السلطة..

وجاءت فرصة حلم جديد في النصف الثاني من التسعينيات، بحيث أعلن النظام تعبه من سياسة العقل الأوحد، وتوجّس من مطبّات الأوضاع الإقليمية الجديدة، ودخول اللاعب الإسلامي بقوة إلى الساحة السياسية المعارِضة، فكانت صفقة ما سُمِّيَ ب"حكومة التناوب" مع الاتحاد الاشتراكي، رائد اليسار آنذاك، والتي شكّلت رغم كل الملاحظات والانتقادات، مطيّة حلم قديم، انتظره المغاربة ببعض الأمل في أن تنجح لعبة "التداول" وتتأسس منهجيا في أسلوب الحكم الذي أدرك وُشك السكتة الشهيرة فاستدار جهة الخصم القديم طالبا طيّ الصفح وتقديم المساعدة، وقيل آنذاك لعلّها خطوة أولية تتبعها خطوات تنقل البلد من سطوة السّوط إلى سلطة الصّوت، لكن خاب الأمل مرة أخرى، وانتكس الحلم من جديد متدحرجا من منهجية الإشراك والتناوب على علاّته، إلى إخراس أصوات الصحافة وإخراج المذكرة الوزارية الثلاثية التي سعت لاجتثات أطراف سياسية بعينها، مما أدّى إلى اصطدام جديد بجدار الفشل والخيبة المضاعفة.. ومات الأمل أو كاد، إلا من بذور يحملها هؤلاء الإسلاميون الذين لم تتلطّخ قُمصانهم البيضاء بوحل البِرْكَة الآسنة بعد، ولا زال صوتهم صافيا لم يصبه دَخَنُ الوعود الكاذبة..

وجاءت لحظة تنصيب ملك جديد لم يكن شريكا في كوارث ما مضى قبله، فتعلّقت بقدومه الأحلام، ونمت سريعا كل الآمال، نتيجة الحملة الإعلامية الكبرى التي رافقت تسويق الصورة الجديدة، ومفاهيمها المنحوتة ببراعة، فانتظر المغاربة ذلك المغرب الجديد على نفس نغمة شعار "العهد الجديد"، وكثرت الإشارات والعبارات والشعارات، ثم ما لبثت أن تقلّصت واختفت، واستأنف القطار سريعا مساره على نفس السكة، فهاجر من هاجر، وانكسر من انكسر، وذبلت تلك الآمال وجفّت عروقها ونضب ماؤها وطافت حولها أشباح الموت البطيء..

ومع بزوغ "صوت الشعب" عبر العدوى الإعلامية السريعة، ارتفعت الأصوات المطالبة بالتغيير، على غير دندنة الأصوات السابقة، وتقدّم الشباب صفوف حراك 20 فبراير، وأطلّ أمل جديد قاوم الرماد ورمال التصحّر، وانتعش من جديد بريح تحمل بعض أنسام مطر واعد، فلم يلبث إلا قليلا حتى انقسم على نفسه، جزء تراجع حين ظهر له أن ذلك الماء لم يكن إلا سرابا لا يغني من ظمأ، وجزء اعتقد أنها فرصة ممطرة رغم كل شيء، ولو تلكّأت وحرنت، وخطت بصعوبة بالغة درجا درجا، خاصة وأنها تحمل جزءًا من أولئك الملتحين الذين ما عُهد عليهم من شيء..
واستمرت اللعبة المخزنية نفسها، وتم ابتلاع اللاعبين الجدد في دوامات الحواشي، واللعب مع الأشباح، وتوريط الأغرار منهم في الابتذال والإمضاء على البؤس والانحدار التام القاتل لآخر عروق الأمل..
وهكذا أتت النار اللعينة على مجمل البذور، وقضت ريح السموم على كل أمل في حلم متجدد بعده..

حتى إذا جاءت كورونا، واعتقد من كان لا زال يحتفظ ببريق ضوء خافت يخفيه عن اليأس القاتم المنتشر، والذي بموجبه يعتقد أنه يمكن استغلال الفرصة، لاستثمار وضعية الركون والركود اللّذين عاشتهما الدولة، لصالح تغيير تدريجي معقلن، خاصة وأننا بحمد الله لم نفقد تماسكنا الاجتماعي وتعقّل فاعلنا السياسي المدني بعد، وأن دولتنا لا زالت قائمة لم يفتتها الصراع الأهلي ولا التدخلات الخارجية الشيطانية كما حدث لبلدان عربية صديقة، ورجونا جميعا أن يشكّل المغرب استثناءً، فتظهر حنكة سياسييه في التعاطي مع جائحة خنقت الاقتصاد وحاصرت الناس في معيشة ضنكٍ لا يتحملها إلا أولو الصبر الجميل، وأَمِلْنا جميعا أن تكون الجائحة محفزا، والتلاحم الإيجابي الذي حصل في مواجهتها باعثا، فيتم اعتبارها فرصة ثمينة لمراجعة المسار، وتجديد الرؤية، وإجراء مصالحة عاجلة مع النفس، والتأسيس لمنطلق مغربي رائد يشكل تجربة تدخل التاريخ من أبوابه الواسعة..
لكن الجائحة كشفت تعطّشا فظيعا للتسلط وركوب كل السبل لاحتواش القرار الشامل وتسويغه بالقانون والخوف، كما كشفت تهاويا سريعا لمنظومات طالما حذّر العقلاء من خطر إهمالها والتخلّي عنها..

والآن، بعد أن بدأت إرهاصات اليأس العام تدخل بورصة خطر التذمّر الاجتماعي الشديد الذي يغلي فوق نار الأزمة الاقتصادية ويهدد بما لا طاقة به من تداعيات لا قدّر الله، والذي تحذّر منها العديد من الجهات، ويتوجّس منها العقلاء أن تبعثر الأوراق وتجرّف كل شيء، لم يعد الرهان كبيرا على صبر المغاربة واعتدالهم وتعقّلهم سالكا، فتلك مميزات وخصائص وعناصر هوية وثقافة كانت نتيجة تربية أخرى، وتنشئة اجتماعية في سياقات مغايرة. أمّا شباب اليوم، خاصة "العشرينيون" الذين ولدوا في العهد الجديد أو قبله بقليل، يظهر أنهم من طينة أخرى، وأنهم نتاج تربية أخرى، وزرع آخر مختلف تماما. إنهم مغاربة آخرون يفكرون بطريقة مغايرة، ويتعاطون مع ما يحدث بصيغ غير مسبوقة، ويقيسون ويميزون بمعايير جديدة، إنهم شعب جديد تماما، نفسيا واجتماعيا وعقليا، ولا أظن سيتمكّن من حكمهم نمط حكم سياسي لم يستطع التخلّي عن حنينه إلى الشمولية المطلقة، واسترفاده لمجمل التقاليد المخزنية العتيقة، في مقابل تعويله على واجهة تسويقية تتعرّى يوما عن يوم، وتكشف الحقيقة الصادمة للجميع.

إنه الأمل، وخطر القضاء عليه تماما، فاليأس هو التربة التي ينبت فيها كل شر - وقانا الله منه-، وإنه لا بدّ من جرأة سياسية حاسمة، تلتقط الإشارة بذكاء ولا تفوّت اللحظة التاريخية المثلى.

وبعد..
سألني أحدهم هذا الصباح:
هل هؤلاء المنتخبون الذين يتقافزون هذه الأيام مع حمى الانتخابات المقبلة، يحملون حلما مغربيا يسعون لتحقيقه، أو مشروعا حقيقيا يطرحونه على الناس؟
نظرت إليه ولم أحاول الإجابة.. سؤاله يجيب بألف خيبة مضاعفة..
الأخطر من هذا:
أسأل أحد الشباب: هل تعتقد بإمكانية تحسّن الظروف في المغرب؟
فيجيبني: أنت أحمق يا رجل، أعطني الأوراق ورافقني إلى المطار ولن ترني مرة أخرى، هذا وعد مني.

ماذا تبقى لنا؟
قلت: هناك دوما أمل تحفظه الصدور الموقنة، وهناك دوما حلم تربّيه الهمم الصارمة، قد يضمر ويُقمَع ويحاصر، لكنه باقٍ ويتمدّد. وبطبيعته، كلما تفاقمت الحملة ضد الأمل، كلّما عاند في إيجاد أسباب النمو والازدهار وازدادت شراسة مقاومته وتطلّعه.
إنها سنة الله، أن ينتصر الأمل وينبت الحلم ولو في الصخرة الصّمّاء..

المغاربة وحكاية الأمل..
رابط مختصر
29‏/8‏/2020 13:55
أترك تعليقك
0 تعليق
*الاسم
*البريد الالكترونى
الحقول المطلوبة*

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.

شروط التعليق :

عدم الإساءة للكاتب أو للأشخاص أو للمقدسات أو مهاجمة الأديان أو الذات الالهية. والابتعاد عن التحريض الطائفي والعنصري والشتائم.

ان كل ما يندرج ضمن تعليقات القرّاء لا يعبّر بأي شكل من الأشكال عن آراء أسرة "الحرية تي في" وهي تلزم بمضمونها كاتبها حصرياً.