القاضي ليس "ابن بيئته"، هو ابن "قانونه".

الحرية تي في - الحرية تي في آخر تحديث : 8‏/7‏/2018 12:02

WhatsApp-Image-2018-06-19-at-14.02.06.jpeg (29 KB)
محمد شمسي -

- شدني وصفان قال بهما كل من وزير الدولة المكلف بحقوق الإنسان الأستاذ مصطفى الرميد ، وكذا رئيس النيابة العامة الأستاذ محمد عبد النباوي ، من أن القاضي “ابن بيئته” ، وذلك في إطار تعقيبهما على ما خلفه حكمان قضائيان صدرا عن غرفة الجنايات باستئنافية الدارالبيضاء ، أولهما في حق نشطاء الريف ، وثانيهما في حق الصحفي حميد المهداوي ، وقد قلبْت الوصْف الذي مُنِح للقاضي فوجدته غريبا عن القاضي ، فالقاضي كمواطن وكإنسان يسري عليه ما يسري على باقي الناس والمواطنين من أمور جِبِلية ، وهو في هذه الحالة ابن بيئته ، من حيث تأثره وتأثيره في محيطه ، من حمولته الثقافية ومعرفية ومن تجارب ومن تفاعله مع وسطه بداية من طفولته ونهاية بعمره الذي هو عليه كقاض مرورا بشبابه ومسيرته التعليمية ، ووضعه الاجتماعي في وسطه الأسري وغيرها من المؤثرات ، لكن حين يشرع ذلك الإنسان القاضي في ممارسة مهام القضاء ، فهو يتجرد من “بيئته” تلك ، ولا يحق له استحضارها ، وعندما يختلي القاضي رفقة أعضاء هيئته إن كان الملف جماعيا أو بمفرده في تأمله إن كان الملف فرديا ، فلا يستحضر القاضي هاهنا غير شروط محددة ليس من بينها “بيئته” ، فهو يستحضر أولا مدى إلمامه الشامل الكامل المانع بكل ظروف القضية وحيثياتها ، وهو لا يحجز ملفا للمداولة إلا إذا كان قد أحاط به من كل جوانبه وقائعا وقانونا ، ثم هو يستحضر ثانيا ترسانته القانونية ، ويخرج أسلحته الفقهية والقضائية ، ومدى اطلاعه على العمل القضائي ، وإلمامه بمختلف التوجهات والأحكام الصادرة في ملفات مشابهة للمعروض عليه ، والتأويلات التي يقبلها النص القانوني بما يجعل إسقاطه على الواقعة منسجما ، ثم ثالثا وأخيرا ضميره المهني ، وحجم المسؤولية الملقاة على عاتقه ، ومن أنه مطالب بإصدار حكم استنادا الى القانون لا غير ، ثم هو يستحضر وازعه الديني من أن الله يراه ، ـ إن كان يدين بدين سماوي ـ ولو أن تحقيق العدالة غير مرتبط بالتدين دائما ، يكون حكما معللا التعليل الكافي الشافي ، وليس حكما منصفا أو مجحفا فذلك لا يعني القاضي في شيء ، والقاضي لا يهتم لردود أفعال حكمه القضائي ، بقدرما يهتم بإخضاع حكمه لمجهر القانون ، وأما القول بأن القاضي “ابن بيئته” حتى وهو في خلوته يدبج حكمه ، فهذا يتنافى مع مهمة القضاء ، فالقاضي لا يحكم إلا من خلال ما بين يديه من وثائق ، ومن خلال ما راج أمامه ، ومن خلال ما اقتنع به اقتناعا خالصا ، وهو غير معني بما يمكن أن تفرزه أحكامه من ردود الفعل ، ففي كل يوم يكسب القاضي أعداء وأصدقاء في حدود نصف عدد الملفات التي يحكمها ، ثم لأن القاضي ليس سياسيا يزن الأشياء بميزان التوقع ، أو يتحسس ردات الفعل ، بل إن القاضي يزن الأشياء بميزان القانون الذي هو رهينه ، فمهما توسعت حرية القاضي وحقه في إعادة التكييف والحكم ، فيده مغلولة بقانون لم يساهم في سنه ولا تشريعه ، وهو مطالب بتطبيقه ، لذلك فالقاضي لا يحكم بمزاجه ولا بمشيئته ولا برغباته ولا تأثرا منه ببيئته ، فيكون في استحضار القاضي ل”بيئته الأم ” التي هو ابن خالص لها وهو يصدر حكمه ، خروج منه اعن مسار العدالة والقانون ، ودخوله في متاهة “بيئته” ، وهو شرط لا يعني المجتمع في شيء ، فالقاضي لا يوزع رحمته على المحالين عليه بسخاء فوضوي ، وهو لا يحقد على متهم أو ضحية لسبب شخصي ، فظروف التخفيف والتشديد أوردها المشرع على سبيل الحصر ، وهو لا ينساق مع الحملات الإعلامية التي تواكب بعض الملفات ، وهو لا ترهبه مواقف الأحزاب والنقابات والجمعيات والمسيرات والوقفات الاحتجاجية من أجل ملف معروض عليه ، وعموما لا يمكن للقاضي أن يتأثر بأي مؤثر خارجي عن القانون الذي هو مطالب بتنفيذه والحكم استنادا عليه ، لكن ثمة أوصل فقهية توصي القاضي بأن “الخطأ في البراءة أفضل من الخطأ في الإدانة ” ومن أن ” تبرئة مائة مجرم خير من إدانة بريء واحد ” ومن أن “الاجتهاد في البراءة خير من الاجتهاد في الإدانة ” وغيرها من القواعد ، فالقاضي يا سادة يا كرام هو “ابن قانونه ” و”ابن مسطرته” ، ومن يزعجه حكم القاضي فلا يحيل عليه ملفا ثقيلا بوسائل إثبات أثقل ، وحلوا مشاكلكم بعيدا عن “قانون القاضي” ، والله أعلم .

 
القاضي ليس "ابن بيئته"، هو ابن "قانونه".
رابط مختصر
8‏/7‏/2018 12:02
أترك تعليقك
0 تعليق
*الاسم
*البريد الالكترونى
الحقول المطلوبة*

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.

شروط التعليق :

عدم الإساءة للكاتب أو للأشخاص أو للمقدسات أو مهاجمة الأديان أو الذات الالهية. والابتعاد عن التحريض الطائفي والعنصري والشتائم.

ان كل ما يندرج ضمن تعليقات القرّاء لا يعبّر بأي شكل من الأشكال عن آراء أسرة "الحرية تي في" وهي تلزم بمضمونها كاتبها حصرياً.